المحرر: جاسم عاصي | عدد المشاهدات: 4822
المُدن العراقية القديمة ، تتمثل العراقة ليس من خلال وجودها كحاضرة فقط ، وإنما في كونها مُدنا حضارية ، أسست لمفاهيم وبنى متعددة ، بما يؤهلها لهجمات البرابرة ومتوّحشي العصور ، ممن يدّعون التمدن والديمقراطية ، وهم يمارسون أفعالاً لا تمت إلى الحضارة كفكر بشيء . ولعل نينوى كمدينة استثنائية في التاريخ عانت الكثير من الحيف ممثلاً بالخراب المتعمد . فقد تأسست الموصل بعد خراب نينوى في القرن السابع قبل الميلاد . احتلها العرب سنة 641 م ثم العثمانيون سنة 1638 وضُمت إلى العراق عند تأسيس الدولة سنة 1918 . سكانها من العرب والأكراد والأقليات الأخرى . اكتسبت شهرتها عندما تم اختراع علم الآشوريات من قبل الباحثين الغربيين . وللآثاري( مزاحم محمود) جُهد كبير في اكتشاف ( مدافن نمرود ) وغيرها من الآثار النفيسة. وهو من اكتشف الغرفة الجنائزية التي أتت بالتميمة القائلة (الويل لمن يلمس أجسادنا ، الويل لمن يسرق حِلينا ، يموت مريضاً ، ولا يذهب إلى الجنّة). إن ما اكتشفه يفوق الإدراك ، أكثر من ستمئة حُلية وأشياء ثمينة تشكّل كنوز الكون مدفونة في القصر الامبراطوري وكان منشأ الذهب من مصر والفيروز من إيرن . أما أنماط الحلي فهي آشورية وفينيقية ومصرية . كانت نمرود مركز العالم القديم . كذلك المُدن العراقية الأخرى ، التي تعرّضت إلى نفس الهجمة الوحشية ، في التطاول على رموز حضارتها .
ولعل واحدا من الأمثلة ما تعرضت له مدينة (أور) قديماً وحديثاً . فقد اختير موقع المطار العسكري عمداً من أجل تخريب الزقورة بفعل تقادم الزمن . كذلك حقيقة ما هي عليه ، ونقصد الزقورة وأرض أور التي لم يتم التنقيب فيها سوى على 20% الأمر الذي يفتح باب الشك على نسبة الـ ( 80%) وإلى ماذا تُغيض ، كذلك اكتشاف بيت النبي ( إبراهيم) !! وما إلى غير ذلك من أمور تصب في ذات التخريب الذي تتعرض إليه المُدن ذات العراقة لحضارية ،عبر التطاول على وجودها الحضاري متمثلاً في رموزها الآثارية . وهذا ما تعرضت إليه مدينة لموصل أثناء دخول داعش.
سقنا مثل هذه المعلومات ، لكي نبرر ونبحث عن الأسباب التي جعلت ( داعش ) تختار بوابة الدخول من نينوى . ذلك لأن الدواعش يعرفون بحكم اعدادهم الفكري أين تكمن قوة البقاء للمُدن . وأين تكمن قوة حضارتها في رموز تعتبرها من بقايا الوثنية . وهي تدرك أيضاً أنها على غير هذا ، الدليل في تصفيتها للطوائف التي تتغاير مع أساليب وحشيتها . إن داعش فكر وليس سلوكا . فحين تبسط قوتها على الأرض ، تُسارع للبحث عن الأصول التي بنيت وشُيّدت بموجبها هذه المُدن ، والتطاول على رموز حضارتها ، ليست مواقف دينية أو مذهبية ، وإن حاولوا اظهارها من خلال زيّهم كمسلمين على مسيرة السلف ، ويؤدون أفعل من دخل الإسلام في زمن الرسول من أجل التخريب الفكري والسلوكي حين تحين الفرصة. انهم يحملون ظلامية نفوسهم من داخل الإسلام بقصد تدميره . وهي تتمثل فعلاً ليس جديداً ، بل عريقاً نشأ مع نشوء الإسلام ، وظهرت نواياه ضمن حركة تحت شعار( تبنى الفكر ، تستطيع أن تهدمه من داخله ) وهي فكرة استعمارية ، استطاع الغرب أن يتبناه لتدمير صرح المعسكر الاشتراكي ابتداء من الاتحاد السوفياتي . و إن العالم يتعرض لأخطر تنظيم مدعوم من دول إسلامية وعربية ،ودول كبرى الغرض منه تصفية كل من له جذور غائرة في القِدم ، أي تدمير الحضارة وتأسيس صرح قائم على الدم والموت والوحشية . إن الهجمة على العرق من خلال نينوى ، يعني البدء بالهدم من الرأس الممتد جسده في حضارات أخرى على طول وادي الرافدين . وللتأكيد على مثل هذا التخريج ، وجدنا أن المُدن الأخرى على طول قامة العراق ، ابتدأت فيها الهجمة ، وما زالت متوصلة في تخريب الموّاقع الاثارية ، والتنقيب فيها بطرق غير قانونية أو مهنية . فالمنقِب ينتمي إلى عصابة تسرق الآثار ، وبإيعاز من جهات متعددة . وهم عراقيون يعرفون قيمتها الحضارية، لكنهم منساقون وراء المال ، ومن اخاتر سُبل التغرير بهم هي الهشاشة في سلوكهم والتطيّر في طموحاتهم . إننا كبلد عريق نتعرض إلى تخريب دائم ومتعمد ومشهود . الأمر الذي يتطلب بناء وعي جديد وسريع من خلال مرافقنا ومؤسساتنا الثقافية ، وتوظيف كل ما من شأنه الاسهام في رفع الوعي دفاعاً عن أصولنا ، فالذي لا يمتلك جذوراً لا يحق له التطاول على وجود غيره هكذا يُفترض أن تتربى الأجيال من خلال مناهج معدّة لذلك ..ولكي لا نكون بلا أصول مثل الولايات المتحدة الأمريكية التي نشأت على تشكيل جسدها من المهاجرين الفاقدين للجذور ، أي للهوية الذاتية. هذا ما تتطلبه الأزمنة القادمة بعد تحرير الموصل استعدادات استثنائية ، ليست كإجراءات وقتية ، بقدر ما تكون أسسا بنائية تشمل كل أطراف الثقافة ولمعرفة والتربية . إن وعي الظواهر يأتي من بدء أسس الوعي المستنبت في مناهجنا وأسسنا التي تؤسس لمبنى فكري يتدرج في الصعود ، لكي يؤسس لعقل كبير متمكن من فهم ووعي ما يُهدد كيانه متمثلاً بالمكان كذاكرة وحضور . فالذي يعي وجود رموزه الوطنية ، سوف لا يسمح لنفسه والآخرين المساس بتلك الرموز والعلامات الحضارية ، بل يزيد من وعيها ، والتعمق في اسباب وجودها وديمومتها كشاهد على ماضٍ مشرق .علينا أن نبدأ بالإنسان ، ولإنسان قبل لمكان ، لأنه من يحافظ على البناء ويُزيد من رونقه من خلال وجود فعل ، عبر جُهد مضاعف ومسهم في البناء .إننا نعيش أزمة عقل ليس إلا .عقل قادر على ادراك ما يُمرر عليه من نوايا وإن بدت وسائل لتمرير أكثر حضارية ، ونقصد التقنية المدهشة ، كوسائل الاتصال والبرامج المرئية والمسموعة.