المحرر: حامد السيد | عدد المشاهدات: 3682
عددٌ من الغاضبين تولوا التعبير على مواقع التواصل الاجتماعية بوسم #حشد_المالكي_لا_يمثلني، انهم يعبرون عن تعاسة ما قام به قائد منظمة بدر هادي العامري بعد ان وضع الفضل في تأسيس الحشد يعود لـ "المالكي في بداية عام 2014"، مع ذهاب عدد من المتعاطفين مع الفصائل المسلحة غير التابعة لإيران الى تفسير كلام العامري بأنه يحمل نوايا الغرض منها إخفاء دور مرجعية السيد السيستاني في تحفيز المتطوعين الشيعة على تحرير المدن السنية من يد تنظيم "داعش".
"إعتراف" هذا ام "تصحيح" من العامري لا نختلف في شأنه كثيراً، في كلا المعنيين كان الرجل صريحاً وواضحاً ولا يذهب الى ابعد من الاقرار بأن تمدد "داعش" في العراق كان مرحلة يعول عليها في اعادة التوازن بين الأجنحة المسلحة الشيعية، من خلال اعادة اصطفاف الموالية منها للايرانيين ودمج وظائفها داخل كيان يتبنى قضية "الدفاع المقدس"، والتصدي لـ "المؤامرات". أما الظهور العلني امام فصائل عسكرية لتقديم "الإحسان" للمالكي في بناء الحشد "المقدس" ودعم "المقاومة"، فهو يكشف ان كل السبل كانت مهيأة، ومدروسة النتائج، ومقدر لها تقديراً دقيقاً لتفضي الى تأسيس جيش رديف له رمزية خاصة ووظائف خاصة، قبل فتوى السيد السيستاني في الـ 13/6/2014 عقب سقوط الموصل بيد تنظيم "داعش"، والتي اعلن فيها "الجهاد الكفائي" لمساندة القوات الامنية.
من اللازم اذاً ان نعرف من الذي هيأ ظروف التأسيس لمثل هذه القوات "الحشد الشعبي"؟ ولأي غرض كانت موجودة قبل "داعش" وتقاتل ضد من؟ وهل كان الوضعان الاجتماعي والاقتصادي في العراق يسمحان بزيادة الأكلاف فوق الأعداد المترهلة للجيش والشرطة؟ والسؤال الأبرز هل كانت الدولة بحاجة لوجود وحدات عسكرية خارج منظومة الأمن الحكومية؟ وفي اي المناطق تقوم بمهامها "السنية" أم "الشيعية"؟
اثناء توليه للمنصب لم يكتفِ المالكي بإبعاد العديد من القادة السنة عن الجيش والشرطة، وكان المأخوذ على حكمه من القوى السنية انه لا يثق بكل واحد منهم يتولى موقعاً تنفيذياً او رقابياً، كان يرى عودة صدام بهؤلاء ليست عقيمة. ظل الارتياب لا يفارقه من المجتمعات السنية وقياداتها المشاركة في العملية السياسية الى ان وصل به الحال في كانون الاول 2012 الى الإقدام على ملاحقة وزير المالية رافع العيساوي، الذي تمت مداهمة مكتبه من قبل قوة أمنية ارسلت بأوامر من مكتب القائد العام للقوات المسلحة، انتهت العملية باعتقال 16 فرداً من حمايته الشخصيين الذين رافقوه طيلة 10 أعوام.
في بداية عام 2012 كانت القوات الأمنية قد تمكنت من اعتقال عدد من الضباط والمنتسبين الذي يعملون لصالح نائب رئيس الجمهورية انذاك طارق الهاشمي القيادي في الحزب الاسلامي، وعرضت اعترافات بعضهم عبر فضائية العراقية التابعة للحكومة اشاروا فيها الى قيامهم بحوادث خطف واغتيال ضد مسؤولين عسكريين وموظفين كبار في الدولة، وحكم على 4 منهم بالإعدام، ولاحقاً شمل الحكم الهاشمي نفسه الهارب الى تركيا، لكن ذلك لم يشكل صدمة للسنة ولم يدفعهم للاحتجاج ضد حكومة بغداد الا بعد قيام السلطات بمطاردة العيساوي عبر اتهامات وجدها سكان الرمادي والفلوجة خاصة وسامراء والموصل وديالى والحويجة وتكريت انها تشكل ضربة ومحاولة لتصفية شراكتهم في الحكم مع الشيعة.
بدأ الناس ينظمون تظاهرات كبيرة في الفلوجة والرمادي انضم لها العيساوي وقادة سياسيون من السنة، وفي أكبر تجمع سني غاضب ضد المالكي كان حاضراً الشيخ عبد الملك السعدي احد ابرز علماء السنة في العراق، وجَّه في كلمة له المتظاهرين نحو السعي للقضاء على بذرة الطائفية ورفع شعارات لإصلاح اوضاع العراقيين في الجنوب والوسط الذين لم يحصدوا من النفط سوى "الأمراض والعوز والجوع"، استمرت التظاهرات أشهر حتى استقطبت شرائح مختلفة من المجتمع السني وراحت تستجلب مطالبات اوسع من الافراج عن حماية العيساوي او اعادته الى منصبه الوزاري، كإلغاء "المخبر السري"، والتوازن في ملف التعيينات، وإطلاق سراح السجناء والسجينات ممن لم تثبت ادانتهم بـ"الإرهاب".
ما كان من حزب المالكي الا ان يواجه تلك المطالب من خلال استرداد الرموز التاريخية والشعارات الطائفية، حتى انه افرط كثيراً في توصيف ما جرى بانه محاولة من "انصار يزيد العصر ضد حسين العصر"، كان هذا يحدث بالتزامن مع رفع المحتجين في الانبار شعارات الحزن والعزاء للمسلمين بأربعينية الإمام الحسين التي تزامنت مع نصب خيام اعتصامهم ضد الحكومة.
وطوال تلك الفترة الحساسة التي كانت تمتد ما بين نهاية 2012 ونهاية 2013، بدأ الوضع السني يُظهر تحولاً ضد الحكم المركزي الذي يقوده نوري المالكي وقياداته الامنية، وصار ينظر له من رجل مطبق لـ "فرض القانون" الى "دكتاتور" مسلط على مناطق نفوذهم في العراق، لقد وصل به الحال الى ترك عجز وفشل وفساد ضباطه وضعفهم عن وضع خطط حقيقية لمواجهة الإرهاب، ليحمّل السُنة واعتصامهم في غرب وشمال العراق مسؤولية الخروق الأمنية في الجنوب او الوسط، لقد كان يرى نفسه انه كلما يتحرك ضد السُنة زاد ذلك من شعبيته بين الشيعة لهذا كان لا يمانع في الاستمرار باستخدام الشارع الشيعي ضد الشارع السُني او التعاطي بالنيابة عن الشيعة ضد السُنة.
ما زالت عالقة في الذهن تلك التظاهرات المحدود التي كان ينظمها حزبه في ساحة التحرير ببغداد والتي كانت تضع المالكي بمقام المحامي عن الشيعة عبر لافتات كتب فيها "لا ولي الا علي.. يبقى قائدنا المالكي"، انه واحد من أساليب شحن العواطف الطائفية والتخفي بها ضد فشل الخدمات وتعاسة العيش تحت حكومته التي ينخرها الفساد من كل جانب، كان التعصب المذهبي وصفة فاعلة يلجأ لها النظام كلما اراد تخدير التغيير واصلاح الوضع.
لقد اخذ التطرف يستحوذ على منابر دينية وقنوات إعلامية وخطابات حكومية ومنصات الاعتصام، ولم يستثنِ حتى بعض النخب التي كانت تعيش جواً هيستيرياً، وتقلباً في المزاج، وغياباً في التحكم بالوضع الذي كان تغطيه الاشاعات والانفعالات المذهبية، كان هذا الوقت المناسب للمالكي ان يجعل الانقسام طريقه السالك للولاية الثالثة، عبر انتخابات استثنيت فيها مدينة الفلوجة ومدينة الكرمة من الاقتراع بسبب سوء الأوضاع الأمنية وكذلك بعض أحياء الرمادي، وفي بغداد شهدت بعض مراكز الاقتراع سيطرة بعض الميليشيات التي كان يقودها رجل الدين أبو كميل اللامي بملابسه العسكرية التي كتب عليها شعار "يا لثارات زينب" ويتحدث شهود انه كان وسيطاً لكسب التصويت الى ائتلاف المالكي.
في 7 نيسان/أبريل 2014، أي قبل سقوط الموصل بشهرين، كشف الخبير العراقي والزائر في معهد هدسون الاميركي للدراسات نبراس الكاظمي، محضراً لاجتماع التحالف الشيعي، وكان المالكي يعتني باستخدام التحذيرات لشركائه الشيعة من ان "القضية اصبحت خطرة جداً"، وبحسب التسريبات التي نشرت في ذلك الوقت ولم ينفِ اي طرف من اطراف التحالف ما جاء فيه، ان المالكي كان يضع امكانات الدولة جزءاً من الحرب بالنيابة عن ايران وسوريا، وكان يشير بحسب المحضر الى ذلك بالقول: "تحدثت مع الاميركان بكل صراحة وقلت اوقفوا هذا المحور السني العربي التركي والا سوف يكون قباله المحور الشيعي الايراني ولكنهم للاسف لم يستطيعوا"..؟!
بل ان اجتماعاً كهذا للتحالف الذي كان من المفترض ان يضع المالكي تحت المساءلة لقيامه بتسليم الفلوجة لداعش والهروب للخلف من مواجهته كان جميع من فيه يعيش حالة الانصات لمقترحاته الداعية لـ "تشكيل مجلس شيعي اقليمي لمواجهة العدوان من قبل الاخرين" يقصد الدول العربية السنية. كان ذلك العمق الحقيقي في نهج وتفكير مؤسس "الحشد الشعبي" نوري المالكي، انه رجل لا ينكر ذاته ويضع افكاره على الطاولة كما لو انه زعيم لشيعة مؤمنين به وبتجربة حكمه! وكأن تنظيماً مثل "داعش" الإجرامي جاء بمثابة هدية من السماء ليعيد التذكير بالمالكي لكن بثياب واسلحة "المقاومة الاسلامية".
ورغم كل هذه التحديات التي واجهها العراقيون خصوصاً بعد توقيت الحرب على الارهاب قبل الانتخابات باسابيع اخذت المرجعية تحمل مسؤولية الإرشاد للمشاركة الواسعة في الاقتراع وتغيير "الوجوه التي لم تجلب الخير للعراق واستبدالها بآخرين كفوئين تحترق قلوبهم على الشعب"، كان هذا جزءاً من خطبة صلاة الجمعة (4/4/2014) في كربلاء بإمامة ممثل السيد السيستاني الشيخ عبدالمهدي الكربلائي، وأكتفى الاخير بالمطالبة الى المشاركة "الفعالة"، و"الواعية" في انتخابات 30 نيسان 2014 دون ان يعلن أي موقف يتحكم بمزاج الناخبين لصالح كتلة سياسية ذات مؤشر ديني او طائفي او فكري، لكن جهات حاكمة في البلد كانت تحاول بين الحين والاخر ربط ذلك الموقف بسياستها وفلسفتها، ما اضطر مرجعية السيد السيستاني الى استخدام اسلوب المواجهة بالنصح العلني لعزل نوري المالكي، وهو ما برز على لسان السيد رشيد الحسيني احد ابرز وكلاء السيستاني في كلمة له بمحافظة بابل اتهم فيها "المالكي بافتعال تظاهرات الانبار وهروب السجناء واطلاق سراح البعثيين لكي تبقى أزماته تشغل الناس عن التفكير بانتخاب غيره".
وفي اشد الأوقات تعقيداً كإحتلال تنظيم "داعش" للموصل واعلانها إمارة للبغدادي، بعد تهجير آلاف العوائل السُنية والشيعية والشبكية والايزيدية والمسيحية والكردية والعربية، لم تكتفِ المرجعية بدعوة "المواطنين الذين يتمكنون من حمل السلاح ومقاتلة الارهابيين بالتطوع للانخراط في القوات الأمنية" (13/6/2014)، بل ذهبت في اليوم التالي (14/6/2014) الى اصدار 3 بيانات استدركت فيها عدة قضايا هامة منها:
- "مناشدة جميع المواطنين ـــــ ولاسيما في المناطق المختلطة ـــــ بأن يتحلّوا بأعلى درجات ضبط النفس".
- ان "التطوع للدفاع عن البلد والمقدسات في مواجهة الارهابيين انما يكون عبر الآليات الرسمية وبالتنسيق مع السلطات الحكومية، مع تحديد الجهات الرسمية الأعداد المطلوب تطوعهم في الجيش والشرطة دون ان يتحول الامر الى زيادة السواد".
- "مطالبة القنوات الفضائية التي وضعت صورة السيد السيستاني على شاشاتها ان تقوم باستبدالها بخارطة العراق".
كانت تلك السلسلة من التوضيحات مطلوبة للنجف التي اتخذت طابع عدم اخفاء مواقفها السياسية قبل اللجوء للصمت، انه اقرب ما يكون اعلان مبكر للتخلي عن زجها بأعباء ومخاطر صناعة كيان عسكري غير رسمي موازٍ للمؤسسة الأمنية الدستورية، يحمل طابعاً مذهبياً تتولى ايران ضخ المال والسلاح له وتشرف على تحويله كقوة "ممانعة" له فلسفة سياسية خاصة تجاه دول الخليج السني ومصالح اميركا في العراق، كمسار حزب الله في لبنان الذي لا تجازف اي جهة في التصدي له ونزع سلاحه.
المتتبع لمراحل خطاب مرجعية النجف بعد توغل "داعش" للعراق لم يجد سوى مطالبتها الجهات الامنية القانونية للقيام بتحمل واجبها الوطني لإلحاق الهزيمة بالارهاب بعد استخدام الدعم لها من قبل "المتطوعين"، ولم يلحظ لـ "الحشد الشعبي" كمفردة أي حضور في البيانات الصادرة من المرجعية منذ لك اليوم وحتى يومنا هذا، وسبب ذلك باعتقادي خاضع لإرادة المرجعية الدينية في ارسال رسائل لمن يريد ان يمكن نفسه قائداً للفصائل الشيعية الجهادية عليه تحمل النتائج، انه اسلوب ومنهج وطرح يختلف عن الاخرين قد يفضل السيد السيستاني استخدامه للفرز بين دعم القوات الامنية والتجاوز عليها.
معروف عن المرجعية انها لا تتبع اسلوباً لا يصب في مصلحة الجميع، ومثلما نشر موقعها الالكتروني في يوم 18/8/2014 اسباب سعيها في اللجوء الى تعطيل حصول المالكي على الولاية الثالثة، اذ فسرت ذلك لـ "الملف الذي كان يحتكره بجميع مفاصله ولم يكن لغير من يعينهم ويرتضيهم من القيادات والمسؤولين أي دور فيه، فكان هو المسؤول عن الاخفاق الكبير، بخلاف بعض الملفات الاخرى كملف الخدمات الذي طالما اعتذر عن فشله فيه بان الوزراء الخدميين يتعمدون عدم تحقق أي انجاز ملموس نجاحاً له"، فضلا عن ان اختيار رئيس وزراء جديد يصب في مصلحة السنة ما كان ليتحقق لو لا موقف النجف من عزل نوري المالكي بالرغم من معارضة ايران للأمر (الدكتور حامد الخفاف ممثل السيستاني في بيروت).
فهل تغادر النجف صمتها السياسي قريباً بعد ان اكتفت بفتوى "جهادية" دون صيانتها من تحركات المالكي ومراوغاته التي لم تخفي شهوته بالعودة الى الصف الأمامي، والتسلق بسلاح "المقاومين" كقائد للتعبئة يحمل رهانه على جسارة الميليشيات بافتعال ما يهواه ويتمناه؟
2016-07-27