
المحرر: د. ناجح العبيدي | عدد المشاهدات: 1001
في الخامس عشر من أكتوبر/ تشرين الأول 2003 ولد الدينار العراقي من جديد بالمعنى الحقيقي للكلمة.
ففي ذلك اليوم بدأت البنوك ومحلات الصيرفة بتوزيع العملة الجديدة وسحب دنانير صدام حسين من التداول.
لاسيما انها كانت في حالة مزرية.
ولم يقتصر الأمر على استبدال العملة فحسب.
بل تعداه إلى اعتماد سياسة نقدية جديدة تقوم على مبدأ استقلال البنك المركزي كشرط أساس لأي تنمية مستدامة.
وهو تطور نوعي جديد ونادر على مستوى المنطقة العربية حيث تكون السياسة النقدية عادة تابعة للحكومة.
ورغم الظروف الأمنية والسياسية بالغة التعقيد نجح البنك المركزي في السنوات اللاحقة في تحقيق انجازات كبيرة.
أهمها رفع قيمة الدينار مقابل الدولار إلى الضعف تقريبا والحفاظ على استقرار سعرالصرف ومراكمة احتياطيات كبيرة من العملات الأجنية بلغت عام 2014 نحو 77 مليار دولار.
بعد أن كانت تبلغ الصفر عمليا.
وساهم ذلك في استعادة ثقة المواطن بالعملة الوطنية.
غير أن الدينار العراقي سرعان ما واجه عواصف اقتصادية وسياسية أفقدته جزءاً كبيراً من بريقه.
سعر الصرف بين المرونة والثبات ما حدث في منتصف 2014 لم يدخل البلاد في أزمة مالية خانقة فحسب.
بل وضع السياسة النقدية أيضا أمام اختبار عسير.
فإنهيار أسعار النفط يعني تسجيل عجز كبير في ميزانية الدولة.
هذا إضافة إلى تزايد الأعباء على الميزان التجاري وميزان المدفوعات.
وهي تطورات تنذر باستنزاف احتياطيات العملات الأجنبية.
أحد أهم ركائز استقرار العملة الوطنية.
ورغم نجاح العراق في رفع إنتاجه النفطي بمعدلات كبيرة وتعويل الحكومة على أمل تعافي الأسعار.
إلا أن الواقع يقول بوضوح إن البلاد تواجه اختلالا هيكليا لن يزول قريبا.
وحتى بافتراض نجاح حكومة العبادي في تطبيق حزمة الاصالاحات المعلنة وفي محاربة الفساد وترشيد النفقات.
فإن تجاوز هذا الاختلال لن يتحقق دون الإقدام على إصلاحات جذرية أخرى.
وبما فيها مراجعة سياسة سعر الصرف وإضفاء مرونة أكبر عليها.
صحيح أن تنويع مصادر الدخل الوطني والقضاء على ظاهرة الدولة الريعية كفيل بالتغلب على هذا الاختلال .
ولكن هذه الهدف طويل الأمد لا يتعارض مع الاستعانة بأدوات السياسة النقدية.
وقد لاحظ البنك المركزي العراقي في منتصف عام 2014 تزايد الضغوط على الدينار من خلال اتساع الهوة بين سعر الصرف الرسمي حينها (1.
116 دينارا للدولار) وسعر السوق الموازي (1.
397) لتبلغ 18% الأمر الذي يفتح الباب واسعا أمام المضاربات في العملة.
وعلى خلفية هذه المخاوف أعلن البنك المركزي في نهاية العام الماضي تخفيض قيمة الدينار مقابل الدولار بنحو 6% في أول خطوة من نوعها منذ ربيع 2003.
فبدلا من 1.
116 ديناراً بدأ البنك مؤخرا ببيع الدولار بـ 1.
182 ديناراً.
وفي نفس الوقت رفع سعر شراء الدولار إلى 1.
180 دينارا.
ويأمل البنك من وراء تخفيض سعر الصرف الرسمي للعملة (أو رفع سعر صرف الدولار) تخفيض الطلب على العملة الأجنبية وعلى السلع المستوردة والحد من تراجع الدينار في السوق الموازي.
وبالفعل انخفضت الهوة بين السعرين مؤخرا إلى 7 % وهي نسبة تبدو مقبولة.
وهناك تأثير آخر لا يقل أهمية لتخفيض سعر صرف الدينار ويتمثل في حصول وزارة المالية على عائدات أكبر.
فمقابل كل دولار من صادرات النفط تبيعه إلى البنك المركزي ستحصل على دنانير أكثر.
والسؤال الهام الآن هو: هل يكفي هذا التخفيض لتجاوز الأزمة الخانقة؟.
من الواضح أن هذا الاجراء غير كاف .
نظرا لأن الاختلال الهيكلي يفرض على البنك المركزي اعتماد مرونة أكبر بما يتناسب مع الظروف الجديدة المحيطة بالاقتصاد العرقي وإتخاذ خطوات لاحقة لتخفيض قيمة العملة الوطنية.
وهنا يجب الأخذ بنظر الاعتبار أن الطلب على الدولار يشهد زيادة كبيرة.
ليس لتمويل السلع المستوردة ولتفنيذ المشاريع الاستثمارية فحسب.
بل نتيجة عوامل أخرى تعتبر جديدة نوعا ما.
ومنها التحويلات الشخصية إلى الخارج.
فعشرات الآلاف من عراقيي الخارج كالطلبة والمتقاعدين وغيرهم يعتمدون في معيشتهم على الأموال التي تُحول لهم من العراق.
كما اكتشف العراقيون مجددا متعة السفر إلى الخارج الأمر الذي يعني طلبا إضافيا على العملة الأجنبية .
كل هذه العوامل تقود لا محالة إلى السحب من الاحتياطيات الأجنبية وتراجع رصيدها.
وهذا ما يحصل بالفعل.
ولا يمكن للبنك المركزي في مثل هذه الظروف إعتماد مبدأ "إصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب!".
فالرهان على عودة أسعار النفط إلى سابق عهدها أمر محفوف بالمخاطر.
ولا يجوز طبعا.
كما يقترح البعض أحيانا.
التفكير بالعودة إلى احتكار الدولة للعملة الصعبة لأنها سياسة عفى عليها الزمن وتمثل أحد المظاهر الجوهرية للدولة الشمولية.
ومن هنا لا يمكن للبنك المركزي الاكتفاء باجراءات إدارية لتحسين مراقبة مزاد العملة ومحاربة غسل الأموال وغيرها.
بل أن التطورات الفعلية للاقتصاد العراقي تفرض عليه الإقدام على خطوات أخرى مدروسة لخفض سعر صرف الدينار من أجل الحد من الطلب على العملة الصعبة.
وإضافة إلى التأثيرات الايجابية لمثل هذا القرار على ميزان المدفوعات وعلى ميزانية الدولة.
فإنه يمكن أن يساهم أيضا في تحسين القدرة التنافسية للسلع المحلية مقابل المستوردة .
مع الإقرار بأن هذا التأثير سيبقى محدودا جراء ضعف مرونة الانتاج المحلي تجاه سياسة سعر الصرف.
غير أن البنك المركزي لا يزال يتهيب من الإقدام على تخفيض آخر في سعر الصرف بسبب التداعيات السياسية والاجتماعية المتوقعة لمثل هذا القرار.
فأي تخفيض في سعر صرف العملة المحلية سيؤدي تلقائيا إلى رفع سعر السلع المستوردة والتي تغطي الجزء الأكبر من الطلب المحلي الأمر الذي قد يثير احتجاجات اجتماعية.
وبطبيعة الحال فإن هناك قوى سياسية شعبوية تتربص.
وبالتأكيد فإنها ستستغل أي نقمة شعبية محتملة كورقة في صراعها على السلطة دون أي اعتبار لمصير الاقتصاد العراقي.
وهنا يجب القول بإن عدم توفر إرادة سياسية موحدة تعتبر أحد أهم العوائق الاساسية التي تحول دون تنفيذ الاصلاحات الاقتصادية الضرورية.
وهي حقيقة عرفها البنك المركزي أيضا أثناء الجدل الذي أثاره مشروعه لحذف عدة أصفار من الدينار العراقي.
الصراع على "الأصفار" عندما يتم احتساب قيمة الدينار مقابل الدولار حاليا يظهر رقم يصعب فهمه لأنه يتضمن عدة أصفار بعد الفاصلة.
ويعود هذا التدني إلى الانهيار الاستثنائي في قيمة العملة الوطنية في عهد الطاغية صدام حسين.
ومن يَطلعْ على ميزانية الدولة العراقية يحتاج إلى قدرات عالية في علم الرياضيات والحساب لكي يفهم الملايين والمليارات والترليونات والأرقام الفلكية التي تتضمنها.
حتى ان معدي الميزانية يخطئون في وحدة القياس ويخلطون أحيانا بين المليار والترليون.
ويؤثر هذا الوضع غير المألوف أيضا على كفاءة التداول النقدي ويزيد من تكاليفه.
إذ كثيرا ما يضطر مواطنون عاديون لحمل أموالهم في أكياس كبيرة.
فما بالك بالتجار.
وفي مثل هذه الظروف فإن من الطبيعي (وهذا ما أقدمت عليه دول كثيرة عانت من التضخم الجامح) أن يتم استبدال العملة بأخرى جديدة أكثر قيمة.
وهذا ما فكرت فيه قيادة البنك المركزي في عهد رئيسها السابق سنان الشبيبي.
عندما قامت بالتحضير بحرفية عالية لمشروع حذف ثلاثة أصفار.
واضعة نصب عينيها رفع قيمة الدينار لكي تصبح قرابة دولار واحد.
وهي خطوة من شأنها تسهيل عملية التداول النقدي والحسابات المالية وتعزيز الثقة بالعملة الوطنية.
وهي أيضا خطوة فنية بحتة لا خاسر فيها ولا رابح والمستفيد الوحيد هو الاقتصاد العراقي.
ولكن المشروع سرعان ما أقحم في دهاليز الصراعات الطائفية والسياسية وأثير حوله جدل.
ظاهره الحرص على مصلحة البلد وباطنه تصفية حسابات شخصية .
خاصة وأن تلك الفترة شهدت تفاقم الخلاف بين البنك المركزي والسلطة التنفيذية في اطار محاولة للي الأذرع توجت بتلفيق تهمة الفساد لقيادة البنك المركزي السابقة والإطاحة بها بطريقة أضرت بسمعة العراق.
وبعد تعيين قيادة جديدة للبنك طرح المحافظ الحالي وكالة علي العلاق المشروع من جديد وتعهد بتنفيذه في بداية عام 2017 ولكن لا يوجد على الأرض ما يبشر بذلك.
فقيادة البنك المركزي تعرف جيدا أنها تسير في حقل ألغام.
وبعد تقليم أظافر القيادة السابقة يبدو أن البنك أصبح يجد صعوبة في الحفاظ على استقلاليته وتحول الى موقع الدفاع عن النفس وبات مضطرا لتبرير أي خطوة يقدم عليها.
وهذا ما تجسد أيضا أثناء طرح العملة النقديةالجديدة فئة 50 ألف دينار في أواخر العام الماضي.
فهذه الخطوة العادية جدا أثارت ايضا نقاشا "سياسيا" و"اقتصاديا" غلب عليه الافتعال والمبالغة والتهويل وخلط الأوراق.
وفي خضم هذا الجدل يبدو أن البعض نسي أن قيمة الورقة الجديدة لا تزيد عن 40 دولارا فقط .
وبالتالي فإن مساهمتها في حل مشاكل التداول النقدي في العراق تبقى محدودة.
ومن هنا لا بد من التوجه الجدي لإحياء مشروع حذف الاصفار كخطوة ضرورية لإعادة الاعتبار للدينار العراقي وإصدار أوراق نقدية ذات قيمة أكبر بهدف تسهيل عمليات الدفع والشراء والبيع.
ولكن هذا الهدف لن يتحقق تماما دون تطوير النظام المصرفي وتقليل عمليات الدفع بالنقد لصالح التحويلات المصرفية وغيرها من أشكال الدفع الائتماني.
غير أن ذلك يتطلب بالدرجة الأولى إقتناع المواطن بمزايا النظام المصرفي.
وهي قضية تبدو عسيرة بسبب التحديات الأمنية والسياسية والاقتصادية التي تواجه البلاد.
2016-05-01